في ظل العمامة وغياب الدولة
بقلم الأستاذ عوني القلمجي
يوم الجمعة الماضي، عقد وفدا التيار الصدري وحركة “عصائب أهل الحق”، اجتماعا لإيقاف جرائم القتل المتبادلة بين الطرفين في محافظة ميسان. وصدر عن الاجتماع بيانا مشتركا، اكتفى بعدد من الفقرات ذات الطابع العمومي، لتجنب الاتهامات الموجهة للطرفين من قبل سكان المحافظة من جهة، ولتبرئتهما من التجارة بالمخدرات من جهة أخرى. من قبيل ندين ونستنكر جميع جرائم القتل، أو ندعم ونساند القضاء والاجهزة الأمنية، من أجل أخذ الدور الأكبر في فرض القانون والحد من الجريمة. او المطالبة بالتحقيق من قبل الجهات القانونية. ولم يغفل البيان اتهام الطرف الثالث بتلك الجرائم. حيث أسهب في هذا الخصوص بالقول “ندعو أهالي محافظة ميسان التحلي بالصبر لتفويت الفرصة على من يريد اثارة الفتنة بين ابناء الأب الواحد محمد الصدر”. اما الفقرة السادسة والأخيرة من البيان فتنطوي على التهديد. اذ طالب الاعلام بتوخي الحذر في نقل المعلومات. في محاولة لإسكات الاعلام عن ذكر الحقيقة.
لندع هؤلاء الأشرار وبياناتهم الكاذبة ونطرق باب الحقيقة، وليس الدخول اليها من الشباك كما يفعل الحرامية. ملخص ما حدث باختصار شديد جدا جدا ان ميليشيا مقتدى الصدر وقيس الخزعلي، ارتكبت جرائم قتل متبادلة سببها الخلاف حول واردات تجارة المخدرات، التي تدر أرباحا تقدر بملايين الدولارات شهريا، وأدت الى قتل عناصر عديدة من داخل هذه المليشيات ومن خارجها، كان من بين أبرزهم القاضي احمد الساعدي المختص بقضايا المخدرات في محكمة استئناف ميسان، وكرار أبو رغيف، أحد قيادي التيار الصدري، وعدد من الشرطة في المحافظة، ليستمر مسلسل الاغتيالات لعدة ايام.
ما حدث ليس منفصلا عن جرائم القتل المستمرة، والانفجارات التي تهز مدن العراق وقصباته على مدار السنة، والتي يزداد عددها ومساحتها والأطراف المشاركة فيها قبل اجراء الانتخابات، وقبيل تشكيل الحكومة ووقت توزيع المناصب. ناهيك عن منظمة داعش الإرهابية التكفيرية، وظهورها العلني في مثل هذه المناسبات، والسماح لها بشن الهجمات. مرة على القرى الامنة وقتل اهاليها، وأخرى على مواقع عسكرية عراقية. وثالثة القيام بتفجيرات في المحلات التجارية والأسواق المكتظة بالسكان. وكان أخرها التفجير الغادر الذي هز منطقة الكرادة الشرقية يوم أمس.
إن مليشيات الصدر وصحبه الأشرار، من برزاني وطالباني ومالكي وعامري وحكيم وخزعلي، لن تتردد لا في التصفيات فيما بينها، ولا في التسقيط المتبادل، ولا في قتل العراقيين بشكل منظم وفي أي وقت تقتضيه مصالحها الدنيئة. فهذه المليشيات لم تتشكل الا لتكون أداة تهديد وبلطجة للسطو على موارد العراق. وقد حددها عادل عبد المهدي، حين كان رئيسا للوزراء وبالصوت والصورة، ومن على منبر البرلمان بأربعين موردا، أطلق عليها اسم ملفات الفساد. ووضع كل مورد في ملف موثق. وبالتالي فلكل مليشيا حصتها. هذه الملفات هي تهريب النفط ، العقارات، المنافذ الحدودية، تهريب الاموال، الجمارك، تهريب الذهب، السجون ومراكز الاحتجاز، تجارة الحبوب والمواشي، التهرب من الضرائب، الاتاوات والكومسيون، تهريب العملة، ملف التقاعد، المخدرات، ملف الشهداء، التجارة بالأعضاء البشرية، تجارة الاسمدة والمبيدات، تسجيل السيارات، التجارة بالعملة الاجنبية، بيع وشراء السيارات، الاقامة والسفر، الادوية، سمات الدخول، البطاقة التموينية، الرعاية الاجتماعية، الكهرباء، التعيينات وبيع المناصب، تهريب الحديد والسكراب، الامتحانات وبيع الاسئلة، القروض المالية والسلف بدون غطاء، الاتصالات والتلفونات وشبكات الانترنيت، ملف النازحين. وكان الرجل قد أعلن قبلها عن فقدان 300 مليار دولار من خزينة الدولة خلال سنين الاحتلال. اي بمعدل 20 مليار دولار سنويا.
لم تتوقف هذه المهازل عند هذا الحد، وانما لجات المليشيات الى فتح أبواب أخرى لكسب المال الحرام. فهي تقاتل بعضها البعض على تقاسم المحافظات. فالعمارة منطقة مغلقة للصدريين والأخرى لعصائب اهل الحق والثالثة لمنظمة بدر. اما بغداد، فمدينة الصدر من حصة مقتدى والكرادة الشرقية من حصة عمار الحكيم. وهكذا المطاعم والنوادي الليلية وصالات القمار، فلكل طرف حصة معلومة. ولم تسلم من هذه المنافذ التي تدر الأموال، عبور السيارات الخاصة او التجارية من محافظة الى أخرى. فالتاجر الذي ينقل بضاعة من البصرة الى بغداد، يمر بعدد من الحواجز يدفع فيها مبلغا معينا، تحدده السيطرة التابعة لهذه الميليشيا. بل حتى الكراجات المخصصة لوقوف السيارات فقد جرى تقاسمها بين المليشيات. اما تهريب النفط فلكل مليشيا انبوبها الخاص الذي يمول من الانابيب الرئيسية. بل حتى المياه التي تمر بالأراضي الزراعية أصبح لها سعر محدد. وإذا سارت الأمور على ما يرام، أي في حالة الاتفاق يسرقون الشعب، وإذا اختلفوا يقتلون هذا الشعب المظلوم. وقد وصفت هذه الحالة اهزوجة شعبية تقول، “إذا اتفقوا سرقونا وإذا اختلفوا فجرونا”. اما الوزرات والمناصب فيتم بيعها علنها وعلى عينك يا تاجر كما يقول العراقيون.
اما دور المليشيات في المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب والدرجات الخاصة، فهذه تمثل منظومة محكمة بذاتها. إذا لا تكتفي هذه المليشيات منح رئاسة الجمهورية للكرد، وانما يخضع هذا المنصب الى محاصصة داخل محاصصة. فاذا كان منصب رئيس الجمهورية للسليمانية، فمنصب رئيس الإقليم لأربيل. مثلما هو منصب وزير الدفاع للسنة. لكن هذا المنصب يعود لهذه الجهة السنية، ومنصب وزارة التخطيط لجهة سنية أخرى. وكذلك وزارات المليشيات الشيعية. فوزارة الداخلية مثلا لعمار الحكيم والنقل لهادي العامري والصحة لمقتدى والتعليم لقيس خزعلي. ومن الطريف ان نرى اليوم عراكا على تحديد المقرر الأول والثاني لرئاسة البرلمان، بين التركمان والمسيحيين، والذي لم يحسم لحد كتابة هذه السطور. والقائمة بهذا الخصوص طويلة ومؤلمة جدا.
وكان اخر فضائح هذه المليشيات هي فضيحة مقتدى الصدر. حيث ادعى الوطنية والنزاهة والشرف. وانه بريء من هؤلاء الأشرار كبراءة الذئب من دم يوسف. حيث يطالب بتشكيل حكومة اغلبية وطنية تحارب الفساد والفاسدين. لكنه في الوقت نفسه، يقيم التحالفات مع حيتان الفساد لتمرير حكومته المتخيلة في عقله المريض، أمثال محمد حلبوسي ومسعود البرزاني وخميس الخنجر. ووصل به الامر لان يدعو خصومه الفاسدين في الإطار التنسيقي، أمثال هادي العامري وقيس الخزعلي وعمار الحكيم وحيدر العبادي، للمشاركة في الحكومة بشرط التخلي عن زعيمهم الحرامي نوري المالكي، لأسباب شخصية لا علاقة لها بالوطن والوطنية والإصلاح. وكان اخر نشاطات مقتدى بهذا الخصوص، هو دعم الحرامي الذي لا يشق له غبار هوشيار زيباري لأشغال منصب رئيس جمهورية العراق. ولا ندري ماذا سيفعل مقتدى بهذا المرشح بعد صدور قرار من المحكمة العليا باستبعاده من الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية. هل سيتمسك به ويطعن بقرار المحكمة؟ ام سيدعم حرامي اخر يرشحه حليفه الحزب الديمقراطي الكردستاني؟
لو حدث مثل هذا الفساد، او اقل منه بكثير في اي بلد، مهما بلغت حكومته من صلافة واستهتار، لحزمت حقائبها وولت الادبار، اما خوفا من العقاب ومصادرة الاموال المسروقة، او هربا من عقاب الناس. لكن ما يحدث عكس ذلك تماما. حيث لجات الكتل والاحزاب الطائفية المتهمة الاولى بالفساد، والتي هي عماد الحكومة والبرلمان، الى استخدام الهجوم كخير وسيلة للدفاع، حيث تقوم كل مليشيا باتهام الأخرى بارتكاب المجازر وسرقة المال العام بل وتذهب ابعد من ذلك وتطالب هي ذاتها بالإصلاح وتطرح المشاريع المتعددة بهذا الخصوص دون حياء او خجل. وإذا حاولت النطق بكلمة واتهمت هذه المليشيا او تلك، فستجد نفسك مقتولا ومرميا في إحدى المزابل. خاصة وان هؤلاء القتلة قد امنوا العقاب لأنهم يتحصنون بقضاء فاسد. اما القضاة الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فيجري قتلهم بدم بارد. وكان القاضي احمد الساعدي المختص بقضايا المخدرات في محكمة استئناف محافظة ميسان اخر الضحايا. حيث كان تسلسله في قائمة المغدورين السابع والستين منذ الاحتلال ولحد يومنا الحاضر.
في العراق، الذي يئن تحت عمائم القتلة. عراق الموالاة والتردي، يعلن الفساد عن نفسه بأوضح صوره، وكلما احتد اتسع معه الصراع والقتال أحيانا بين اقطابه لسرقة أموال البلاد. وما يجعل الصورة قاتمة، ان الفساد قد استشرى ليشمل كل مؤسسات الدولة من اعلى سلطة فيها، مثل الحكومة ومجلس النواب والقضاء، الى أصغر سلطة مثل الدوائر الحكومية والمديريات العامة وغيرها. ووصل الامر بالفاسدين الاعتراف علنا بهذا الفساد، وعدم الخجل من ممارسته، بل ان بعضا منهم لا يهاب الحديث عن سرقاته وعن الاموال التي جناها من خلال مناصبه، بما فيهم اعضاء في لجنة النزاهة، التي من المفترض فيها كشف ملفات الفاسدين، وتقديمها الى المحاكم. وبالتالي لا اصلاح في ظل هؤلاء الفاسدين، وانما الإصلاح هو الذي يتم على يد ثوار تشرين الذين يعدون العدة لليوم الموعود لكنس هؤلاء الأشرار دفعة واحدة، على الرغم من العقبات الكثيرة التي تعترض طريقهم. هذه هي الحقيقة التي لا تقبل الشك او التأويل.